الرئيسية التحقيقات دماء “إيمان” في “كشك الولادة” نَزَفَها الفراغ القانوني لخطأ طبي!

دماء “إيمان” في “كشك الولادة” نَزَفَها الفراغ القانوني لخطأ طبي!

قصة استقصائية_ أمل حبيب

الصرخة الأخيرة لإيمان معمر 24 عامًا كانت الأولى لمولودتها الخامسة، مر الوقت بطيئًا على زوجها محمد منذ سماعه تلك الصرخة،

فلم تخرج له زوجته سالمة من “كشك الولادة” وفي حضنها ابنته، بل حُملت إيمان بعدها بساعات جثة على الأكتاف!
“ثلاثة أشهر مرت ولم يعاقب الفاعل ولم يحاسب على إهماله، حتى أن الرد على الشكوى لم يصلنا” يردد هذه العبارات “محمد”،

عاقدًا حاجبيه، كتلك العقدة في سجلات التحقيق والتي يؤكد محاميه خالد أبو العينين بأن الفراغ القانوني

في قضايا محاسبة مرتكبي الأخطاء الطبية في وزارة الصحة هو ما يفتح الباب لإفلات المسؤولين من العقاب

لغياب الرادع مما يؤثر على جودة الخدمات الطبية وبالتالي انتهاك الحقوق الأساسية لاسيما الحق في الحياة كما حدث مع إيمان.

ضحايا الموت على سرير الولادة نتيجة الإهمال الطبي في قطاع غزة لم تكن آخرها إيمان، بل تلاها حالتين

في شهر يوليو من الشهر الجاري إحداهما توفت مع أربعة أجنة في بطنها!

ايش بعرفك بالنزيف!”

بخطوات ثقيلة خرجت إيمان مشيًا على قدميها من غرفة التوليد، باطن قدميها ترك أثر بصماتها ممزوجًا بالدماء على

أرضية مستشفى الهلال الإماراتي للولادة في رفح جنوب قطاع غزة والتي ما فتئت تنزفها لثلاث ساعات!
ذاك المرر الواصل بين غرفة التوليد وغرفة أخرى مشت خلاله إيمان آخر خطواتها قبل أن تغرق في بركة دماء نادت بعدها والدة زوجها

“ايمان بتنزف” فردت إحدى الممرضات “ايش بعرفك يا حجة بالنزيف”.
خبر وفاة المعلمة إيمان انتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي بشكل واسع وسط مطالبات من عائلتها بمعاقبة طاقم التوليد في

“الإماراتي” على إهمالهم لابنتهم أثناء وبعد الولادة، مؤكدة على حقها في مقاضاته وملاحقته قانونيا.
قانونيًا يخبرنا محامي العائلة أنه تقدم بشكوى لوزارة الصحة منذ أكثر من ثلاثة أشهر ولم نحصل على أي نتيجة،

وفي تفاصيل الشكوى أكمل حديثه: “تقدمنا بشكوى إلى النائب العام لتسريع الموضوع، وتزودنا بالشهود والأدلة والبراهين

التي تثبت بأنها توفت نتيجة خطأ طبي وإهمال”، وأضاف: “تم تحويل القضية إلى نيابة جرائم المؤسسات وهناك تم تحويل

الشكوى لوزارة الصحة للرد”، تنهيدة طويلة توقف بعدها المحامي عن الحديث لبرهة، وكأنه يتخيل طلب الشكوى وهو يتنقل

من دائرة رسمية إلى أخرى، قطع صمته معلقًا :”الإجراءات الروتينية والمماطلة تقتل الضحية مرتان!”.

فراغ قانوني!

حشرجة صوت محمد كانت تصلنا تباعًا كلما عاد بذاكرته ليوم 14 ابريل من العام الجاري، لوجه زوجته المغطى بشرشف السرير الأبيض،

لاصفرار وجهها وعينيها المغمضتين أثناء نقلها لغرفة العمليات مع حالة الفزع لطاقم التمريض وذاك الطبيب المناوب الذي وصل بعد ثلاث ساعات

من نزيف زوجته، جميع المشاهد السابقة باتت هاجسًا يلاحقه بالتزامن مع صرخات مولودته التي اختار لها اسم أمها “إيمان”!

“كلنا مغيبين” هذه الجملة قالها لنا في أكثر من سياق، الأول لغياب الرد الرسمي عن عائلته وآخر تفاصيل الشكوى،

والثاني لحالة التعتيم التام لحالة زوجته بعد الولادة، فلم يأخذ أحد الأطباء موافقته لإجراء عمليات لزوجته ثم لإعطائها 9 وحدات دم، و7 بلازما!

في الوقت الذي يؤكد فيه أرمل الضحية إيمان أن المماطلة سيدة الموقف في شكواه يؤكد سعيد البطة المستشار القانوني لوزارة الصحة

بأن الصحة تتابع الشكاوى الواردة إليها بشأن ادعاء وجود خطأ أو إهمال طبي في قضية إيمان معمر، منبهًا أن وحدة الشكاوى

في الوزارة مهمتها استقبال الشكاوى التي ترد لهم من منظمات حقوق الانسان ومن النائب العام كذلك، حيث تتعامل بجدية

واهتمام من خلال تشكيل لجنة تحقيق مختصة.

اللجان تقوم بدراسة الملف الطبي للمريض، وبعد ذلك استدعاء الأهل مقدمي الشكوى

ثم استدعاء الطاقم الطبي، وتدوين الافادات،

والاطلاع على الأوراق والمستندات ذات العلاقة بالشكوى، لم ينكر المستشار بأن يستغرق وقت

لأنه يمر على أكثر من لجنة لا يطول عن ثلاثة شهور، شهر أو شهرين.
ما يخشاه محمد فعليًا ليس المماطلة في الرد على شكواه المقدمة لوزارة الصحة، بل من المماطلة في تنفيذ أقسى

درجات العقوبة بحق من تسبب في وفاة زوجته أثناء الولادة، وهنا كان الرد من القانوني أبو العينين والذي علق بغياب

قانون يوفر العدالة لضحايا الأخطاء الطبية، أو يقلل من تلك الأخطاء، منبهًا إلى وجود ثغرة قانونية، فالطبيب الذي يخطئ

أو يتسبب في حالة وفاة يحاكم وفق القوانين العادية التي تبدأ بالتنبيه وتنتهي بالفصل من العمل!
يتكور محمد حول وجعه مجددًا لاسيما بعد أن تسرب له خبرًا يؤكد أن أحد الأطباء المذكورة أسماؤهم في لجنة التحقيق

قد سافر مؤخرًا خارج القطاع دون ملاحقته أو منعه قانونيًا!

“إذا ثبت وجود خطأ أو إهمال نُقر في التقرير بوجوده” يحاول المستشار القانوني لوزارة الصحة بإيصال رسائل تطمينية

من خلال معد التحقيق لعائلة الضحية، ويتابع: “إذا ثبت أن هناك تقصير فلابد من مجازاة الموظف”.
حتمًا سيشعر محمد بالإنصاف فور سماعه بعقاب المقصر، إلا أنه سرعان ما يعود لقهره ريثما يعلم بأن القانون المعمول

به هو الخدمة المدنية، ووفقا لنص المادة 68 من هذا القانون فلقد حصرت العقوبات في عشرة، تبدأ بالتنبيه ولفت

النظر والحرمان من الراتب والإنذار والفصل!

لا يرى مستشار الصحة أي مشكلة بالقانون، بل يؤكد على وجود عقوبات رادعة به تنتهي بالفصل، مشيرًا إلى وجود

قضايا جزائية مودعة من النيابة العامة لدى المحاكم بحق موظفين من الصحة تتعلق بالخطأ والتقصير.

تقريران متناقضان!

ثمة تفاصيل أخرى في قضية الضحية إيمان معمر، يتجول بها محمد بلا حيلة، زوجته التي أنجبت أربع مرات سابقة بشكل طبيعي،

ولا تعاني من أي مشاكل صحية كالضغط أو سكر الحمل، “كيف تركوها تموت”!
نهاية واحدة لإيمان، ولكن بتقريرين متناقضين لحالتها وسبب الوفاة، تمكنا بدورنا من الحصول على صورة من كل تقرير،

الأول للمستشفى الإماراتي والذي يؤكد أن إيمان “عانت من نزيف بسبب تمزق في عنق الرحم، وتم عمل عملية

فتح البطن وعمل اللازم تحت تأثير بنج كلي، وتعويض المريضة بمحاليل 6 وحدات دم ، و7 وحدات بلازما، ثم الحديث

عن تجمع 60 مل من البول بعد العملية بثلاث ساعات ثم تغيير القسطرة ولا يوجد بول”!
حتمًا ستشعر بالتيه عند اطلاعك على هذا التقرير الطبي الأول المرفق مع التحقيق، ولربما ستبدو الصورة أوضح

بالنسبة لك عند قراءتك للتقرير الثاني لمستشفى غزة الأوروبي بخانيونس والذي تم تحويل إيمان إليه بعد تفاقم

حالتها في الإماراتي، وهناك كُتب في خانة ملخص الحالة الصحية “المريضة بعد الولادة عانت من نزيف رحمي حاد

ناتج عن انفجار رحمي وبعد عملية اصلاح الرحم ونقل الدم عانت المريضة من مشاكل نقل الدم وفشل كلوي وخلل

في عمليات التجلط وهي الآن على جهاز تنفس صناعي ومدعمات الضغط”!
كل هذا التناقض وضعناه على طاولة وزارة الصحة والتي عقبت على ذلك بالقول :”اللجنة اطلعت على جميع الأوراق

الطبية ذات العلاقة في المستشفيات التي حُولت لها المريضة، والقرار هو للجنة التحقيق، وإن كان هناك تناقض في

أي تقرير فاللجنة هي من أصحاب الكفاءة العالية وهي قادرة على اتخاذ القرار العادل والمهني”.

أخطاء وقحة!

عدد الشكاوى عام 2018 التي وصلت وزارة الصحة التي تتعلق بملف الأخطاء الطبية هي 16 شكوى وفق المستشار القانوني

للوزارة والذي أوضح أنه تم تشكيل لجان تحقيق في هذا الخصوص من ضمنها لادعاء إهمال لحالات الولادة، لافتًا إلى أن

نسبة كبيرة من الشكاوى التي تردهم تتعلق بقضايا الأخطاء والتقصير في أقسام الولادة سواء بالقطاع العام أو الخاص،

وتبين بوجود 3 حالات تقصير بعد لجان التحقيق في العام الماضي.

مشاهدات الباحث القانوني عبد الله شرشرة جاءت مختلفة عن إحصائية وزارة الصحة، حيث أوضح بأن هناك من 20-30

لجنة تحقيق تعقدها وزارة الصحة بقطاع غزة سنويا لفحص ادعاء وجود خطأ طبي، في العادة من 4-5 حالات سنويا تقر

فيها وزارة الصحة أن الحالة هي خطأ طبي، منوهًا إلى أن العام الماضي فصلت المحاكم ب 3 قضايا تتعلق بأخطاء طبية،

خلال العام 2018، وكان هناك 10 قضايا منظورة أمام المحاكم، السؤال؟ هل نسب الأخطاء الطبية بغزة كبيرة؟
يجيب القانوني على سؤاله: “في الواقع بالمقارنة مع 102.399 عملية جراحية سنويا، 4 مليون فحص مخبري، 1500 عملية قسطرة،

182 عملية قلب مفتوح، 11 عملية زرع كلى، 81 ألف عملية غسيل كلى، 56 ألف حالة ولادة، سنويا تجري في غزة فنسبة

الأخطاء الطبية هي قليلة ومحدودة، إلا أن المشكلة ومن خلال اطلاعي على بعض الحالات، بأنها ” أخطاء وقحة ” يمارس

فيها الطبيب إهمالا أو انتهاكا لبروتوكولات طبية ينبغي أن يتبعها بشكل صارم كطبيب ممارس معتاد!”.

السلامة الطبية في الضفة!

لأكثر من ثلاثة أشهر ظل أنين أطفال إيمان الخافت مسموعًا، يجلس والدهم متكئًا بظهره على الحائط، ثم يتكور فجأة حول وجعه،

ويعود لتفاصيل كانت ترويها ايمان ممزوجة بالحسرة عن وفاة أمها أثناء الولادة قبل 17 عامًا بسبب الإهمال الطبي

دون معاقبة الطاقم الطبي المسؤول آنذاك، وكل ما يخشاه الآن أن تدفن حكاية زوجته دون متابعة لإجراءات التحقيق أو تعويض العائلة!

وزارة الصحة أكدت بدورها أن لجنة التحقيق في وفاة ايمان على وشك الانتهاء من تقديم تقريرها لوكيل الوزارة مقترنًا بالتوصيات،

وسوف يتم إعطاء الأهل كتابًا بالنتيجة، وقالت: “لا نتهاون في أي شكوى، لأن التهاون سوف يؤدي إلى زيادة الأخطاء والوزارة

حريصة على التعامل بكل قوة وصرامة”.

معرفة حجم المخاطر التي قد تنشأ في حال التهاون من معاقبة أو مساءلة

الطاقم الطبي أدركها مركز الميزان

لحقوق الإنسان لأنها تمس أحد الحقوق الأساسية التي لابد أن يتمتع بها المواطن، وتزيد من شكوكه في المنظومة الصحية

مركز الميزان لحقوق الإنسان، فقام بتقديم بلاغاً للنائب العام في غزة بعد وفاة المواطنة أثناء الولادة، مطالبًا فيه بضمان

عدم إفلات المقصرين من العدالة واتخاذ الإجراءات القانونية دون إبطاء في حماية للحقوق المكفولة بموجب المعايير القانونية الوطنية والدولية.

محامي محمد_ زوج إيمان _ يؤكد من جهته أن وجود قانون خاص بالأخطاء الطبية وتطبيقه في القطاع سيعزز من ثقة المواطن

الفلسطيني في النظام الصحي، إلا أن الانقسام السياسي حال دون ذلك!

وعن تفاصيل هذا القانون أوضح بأنه وفي نهاية العام المنصرم تم مصادقة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على

قرار بقانون بشأن “الحماية والسلامة الطبية والصحية” في الضفة، والذي يحقق توازناً بين الأطباء والمرضى.

ويرى القانوني أبو العينين أن هذا القانون يملأ فراغًا قانونيًا في ملف الأخطاء الطبية والإهمال، منبهًا إلى

أنه غير مطبق في قطاع غزة بسبب الانقسام.

رئيس اللجنة الوطنية لصياغة قانون الحماية والسلامة الطبية، المستشارة خيرية رصاص، أوضحت في

مقابلة صحفية سابقة ما جاء في القانون بقولها: “يشكل هذا القانون إنجازا قانونيا، ويوفر الحماية للجميع

من مرضى، وأطباء، ومؤسسات طبية”.

وأضافت: “إن فكرة القانون والمحفّز الأساسي من أجل الحديث عنه جاءت من

وجود فراغ قانوني، فيما يتعلق

بالأخطاء الطبية، وآخر قانوني في حماية مقدمي الخدمة الطبية في فلسطين، من أطباء وعاملين في

المستشفيات، والطفل أمير زيدان كان المحفّز الأساسي لإقرار هذا القانون”.

خلال حديثنا عن قضية إيمان مع وزارة الصحة بغزة أخبرتنا أنها قامت بتنسيب قانون شامل تم إعداده من

قبل خبراء في المجال الطبي والقانوني إلى المجلس التشريعي قبل عدة سنوات بشأن المسؤولية الطبية،

مشيرة إلى أنه بحاجة لإقراره وتفعيله من المجلس التشريعي، إلا أن الانقسام والأسباب المالية تحول

دون ذلك وفق المستشار القانوني لوزارة الصحة.

لم ينكر مستشار الصحة أن هناك عدة قضايا منظورة أمام القضاء الفلسطيني ضد الوزارة لإلزامها بدفع تعويضات

لضحايا في قضايا أخطاء طبية، منبهًا إلى أن هناك حوالي خمس قضايا صدر بها أحكام بالتعويض لضحايا في قضايا الأخطاء،

وهذا برأيه يدل على نزاهة لجان التحقيق.
يأمل محمد معمر أن يصله رد واحد بمعاقبة المقصرين في توليد إيمان بشكل قانوني صارم، وآخر يصله لتعويضه

ماليًا كي ينجو من شعوره بالقهر لرحيل روح رفيقة دربه “إيمان” وبقاء خمسة أرواح حوله مسؤولٌ عنها وحده!

https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/506436.html

دماء “إيمان” في “كشك الولادة” نَزَفَها الفراغ القانوني لخطأ طبي!

لا يوجد تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا