نباشون ينقلون المرض ويسرقون العصارات السامة
محمد الجمل
قبل الوصول بمئات الأمتار بدأت الروائح الكريهة تنبعث من نوافذ السيارة،
وكلما اقتربت المركبة أكثر من جبال النفايات الصلبة المتجمعة في مكب “جحر الديك” شرق مدينة غزة كانت الرائحة النتنة تزداد.
بعد النزول والمشي قليلاً نحو أكوام النفايات تتسلل الروائح النفاثة إلى الجهاز النفسي ويبدأ الزائر يشعر بحرقة في الحلق والعينين،
ثم حالة غثيان ورغبة في التقيؤ، ومع الوقت يبدأ الزائر بالاعتياد على الروائح وتزول بعض الأعراض المذكورة.
السير وسط النفايات وفي محيطها صعباً، فجميع أنواع النفايات تنتشر في كل مكان، البلاستيكية،
والمعدنية، إضافة لمخلفات المنازل، وبقايا الأسواق، بينما تنساب من تحتها مياه سوداء لزجة، رائحتها كريهة،
يحيط بها الذباب والحشرات الضارة بأعداد كبيرة، ناهيك عن وجود حيوانات ضالة، خاصة الكلاب، تنتشر بكثافة وبقطعان في محيط المكب.
ورغم قذارة المكان، وصعوبة البقاء في المكب دقيقة واحدة، إلا أن ثمة من يقصدونه بصورة يومية،
ويعتبرونه مصدر رزق بالنسبة لهم، وهم من يطلق عليهم “النباشون”، فتية وشبان في مقتبل أعمارهم،
يقصدون مكبات النفايات الصلبة بصورة يومية، للبحث وسطها عما يمكن بيعه أو الاستفادة منه،
متجاهلين حجم الضرر الكبير جراء تواجدهم فيه نباشون ينقلون المرض ويسرقون العصارات السامة
عمل خطر
من بعيد كان يقترب فتى يقارب عمره السادسة عشر، يستقل عربة كارو يجرها حيوان، ويتجه بسرعة ناحية المكب،
وزادت سرعته عند وصول شاحنات جديدة تنقل كميات من النفايات بهدف إفراغها في المكب.
نزل الفتى أحمد صالح، ووضع عربة الكارو جانباً، ثم ترجل وهو يحمل شوالات فارغة، وسار عشرات الأمتار متجها نحو أكوام النفايات،
وكان يسير غير معتدل ويتكئ على قدمه اليمنى، حيث اليسرى مصابة بجرح، يلفه بخرقه بالية.
بدا الفتى صالح محترفاً في جمع النفايات، ينتقى البلاستيك وهو المفضل لديه، إضافة للقطع المعدنية، ومخلفات أخرى،
وكان يتنقل ورغم إصابته بخفة ومهارة، ويجمع المخلفات، وكلما امتلاء معه شوال ربطه بحبل، ونقله إلى عربة الكارو.
وبعد عمل استمر أكثر من ساعة، جلب صالح ستة زجاجات بلاستيكية فارغة، بعضها سعة لتر واحد، وأخرى سعة لترين،
وتوجه إلى إحدى برك تجميع عصارة النفايات الصلبة، وهي بحسب الدكتور أحمد حلس مدير عام التوعية البيئية
في سلطة جودة البيئة الحكومية، والمختص بقضايا البيئة، عبارة عن سائل تنتجه النفايات الصلبة بعد تحللها
تحت تأثير الظروف الكيميائية والفيزيائية من ضغط وحرارة، وينتج عن تحللها عصارة شديدة السمية، نباشون ينقلون المرض ويسرقون العصارات السامة
وهي عبارة عن سائل لزج لونه أسود داكن، رائحته كريهة ونفاثة، يحوي تراكيز عالية من العناصر الثقيلة المسرطنة.
بدأ صالح بجمع العصارة المذكورة بواسطة وعاء بلاستيكي، يضعه وسط برك العصارة، ومن ثم يسكب محتوياته في العبوات البلاستيكية،
وكلما امتلأت واحدة، أغلقها ووضعها جانباً، وجلب غيرها وهكذا.
في البداية رفض صالح ذو الملابس المتسخة، واليد التي كانت تنزف دما جراء إصابته خلال النبش،
والوجه الأسود النحيف الحديث معنا حول ما يفعله، ولكن بعد إقناع من معد القصة وافق أخيراً، شرط ذكر اسمه ثنائي، وعدم التصوير.
وقبل البدء بالحديث انتابت صالح نوبة سعال حادة استمرت لنحو دقيقة، قال إنها مستمرة معه منذ أشهر طويلة،
وأحيانا يتجه إلى عيادات “أنروا”، ويحصل على أدوية يشعر معها بتحسن، ثم سرعان ما يعود ويعاني نفس الأعراض من جديد،
وقد تكون أحيانا مصحوبة بشعور بالاختناق.
ويقول صالح إن أسرته تعاني فقراً مدقع، ويعمل بجمع كل ما يصلح استخدامه أو بيعه من مكب النفايات منذ عامين،
فبعد انتهاء مرحلة التجميع، يعود للبيع لفرز النفايات، ومن ثم يتجه لبيعها إما لمصانع تقوم بإعادة تدوير المخلفات البلاستيكية،
أو لمحال جمع الخردة، بينما العصارة يبيعها لبعض المزارعين.
وبتتبع صالح مسافة طويلة، التقى مع أحد المزارعين، وأعطاه العبوات الممتلئة بالعصارة مقابل مبلغ مالي لا يتجاوز 5 شيكل للتر الواحد،
اذ أكد المزارع الذي رفض ذكره اسمه، أن هذه العصارة أفضل سماد يمكن استخدامه للمزروعات،
فهي تمنح النبتة قدرة عجيبة على النمو السريع، كما تزيد الإنتاج بصورة كبيرة، رافضاً التعليق على مضارها.
خطورة مزدوجة
وعلق حلس على وجود النباشين في مكبات النفايات، موضحاً أنها ظاهرة خطيرة، وتركهم يعملون
دون منع يعتبر مفسدة ومضرة صحية قد تلحق بكل مواطن، لذلك يجب وضع حد لهذا الأمر فوراً.
وبحسب حلس فإن الخطورة تنقسم إلى نوعين، الأول إضرار مباشر بالنباشين وأسرهم ومحيطهم، فمكبات النفايات بيئة ممرضة،
ليس من خلال لمس النفايات فحسب، بل على صعيد استنشاق الغازات الممرضة الناتجة عنها، عدا عن احتمال تعرضهم للأذى،
فهناك حالات عديدة تم توثيقها في السابق قتل اثنين من النباشين على الأقل وهم يبحثون عن
ما يمكن بيعه تحت جنازير الآليات الضخمة التي تعمل على فرد النفايات في المكب أحدهما من عائلة السرسك،
إضافة إلى شخص ثالث فقدت آثاره منذ سنوات إلى يومنا هذا داخل المكبات، كما وأنهم جميعاً عرضة للإصابة
بجروح وإصابات ما يعني انتقال الجراثيم والفيروسات والبكتيريا إلى دمائهم مباشرة، ومن ثم إلى أسرهم
بعد عودتهم إلى منازلهم، ليصيب الجميع بأمراض خطيرة.
أما الأمر الثاني بحسب حلس فهو نقل العصارات السامة وبيعها للمزارعين، فقد ووفق حلس فقد شاهد بعينيه
بعض المزارعين يأخذون العصارة بعد تجمعها في برك بجوار المكب، ويقومون باستخدامها كأسمدة للخضروات والأشجار،
فهي بالنسبة لهم سماد ممتاز، يزيد حجم الثمار، ويسرع عمليات نموها، وبالتالي زيادة في الأرباح، لكنهم في نفس
الوقت يدركون مخاطرها، والدليل أنه اكتشف بنفسه قيام بعض المزارعين بتخصيص مساحة صغيرة من الأرض لزراعة
محصول مخصص لعائلته، دون ريها بعصارة النفايات أو المبيدات الزراعية.
المادة 26 من القانون الزراعي الفلسطيني (المخصّبات الزراعية) ينص على ضرورة «تحديد أنواع المخصبات التي
يسمح بتداولها وتحديد مواصفاتها وإجراءات تسجيلها وشروط وطرق تداولها»، كما يجب التزام «شروط وإجراءات
ترخيص استيراد المخصبات والاتجار بها ونقلها من جهة إلى أخرى»، لكنه وفق أسلوب بيع هذا «المخصّب»
الجديد (العصارة) فإنه يتنافى مع نص القانون ويعتبر مخالفاً له.
ويرى الشاب محمد السرساوي،
ويعمل في مكب شمال قطاع غزة منذ سنوات، إن هذه المهنة هي إحدى مفرزات الحصار والفقر،
فبعد عمل شاق يستمر يوم كامل، لا يحقق النباش سوى شواكل معدودة، لا تكفي لتلبية اقل احتياجات أسرته.
وبين أن العاملين في مكبات النفايات يتعرضون لمخاطر كبيرة، أبرزها احتمال إصابتهم بالأمراض سواء من خلال الجهاز التنفسي،
أو التعرض للجروح في بيئة ملوثة، إضافة لخطر إطلاق النار من قبل قوات الاحتلال كون المكبات قرب خط التحديد،
وكثيرا ما تطاردهم الشرطة، لمنعهم من العمل.
وتحدث السرساوي عن خطر الآليات التي تقوم بفرد النفايات في المكبات، واحتمال تعرض العمال للموت أو الإصابة.
عصارة سامة
وعند الحديث عن العصارة ومضارها، نهض حلس من مجلس وقال غاضباً.. هذا سم مركز وقاتل،
ري المزروعات بهذه العصارة أمر خطير جداً، ولها تداعيات خطيرة على صحة الأفراد بجميع أعمارهم، خاصة الأطفال،
وقد أجرى دراسات وأبحاث كشفت خطورة ذلك عبر سنوات في المختبر، وهذا بحسب حلس له علاقة مباشرة
بزيادة معدلات ونسبة الإصابة بمرض السرطان في غزة، والتي وصلت إلى 15 ألف حالة سرطان موجودة حاليا في القطاع،
بواقع 150 حالة جديدة تكتشف شهرياً، وعلى جهات الاختصاص التحرك فوراً ومنع ذلك، ومعاقبة كل مزارع يثبت استخدامه لهذه العصارة.
وفي قطاع غزة يُرحل للمكبات المركزية يومياً تقريباً 2000طن نفايات، و60 بالمائة من تركيبة نفاياتنا الصلبة مواد عضوية،
وهي قابلة للتحلل نتيجة ضغط وحرارة وتفاعل مواد كيماوية، حيث تذوب هذه المواد وتنتج ما يسمى بالعصارة،
وكل طن نفايات ينتج ما 200-250 لتر من العصارة السامة.
ونصت المادة (40) من قانون الصحة العام رقم (20) لسنة 2004م أنه يجب على كل شخص المحافظة على البيئة بعناصرها المختلفة،
وذلك بعدم التسبب بمكاره صحية، وأنه يجب إزالة المكرهة الصحية التي تسبب بها، أو كان مسؤولاً عنها.
دراسات خطيرة
وبعد عودة حلس من رحلة بحثية إلى مكب نفايات جحر الديك، والجلوس والاستراحة قليلاً، قرر حلس إعادتنا معه سنوات للوراء،
وفتح شاشة الحاسوب الشخصي، وقلب بعض الملفات إلى أن ضغط بزر الفأرة على رابط لمجلة علمية أميركية شهيرة،
تسمى Waste management ، كانت نشرت له دراسة أجراها في عام 2015 وحصل بسببها على تكريم من مجلس علماء فلسطين عام 2017، وكشفت أن العصارة المذكورة تحوي على تركيز عالي جداً للمواد العضوية يصل إلى 45 ضعف ما هو موجود في مياه المجاري،
وتحوي هذه العصارة على نسب مخيفة من المواد الثقيلة شديدة السمومية مثل “الرصاص، والزنك، والزرنيخ، والنيكل، والكوبلت”
إضافة لوجود تركيز عالي لمادة “الأمونيا السامة”، وهذا له تأثير ضار جداً على البيئة والزراعة في حال تم ريها بتلك العصارات.
واستعرض حلس بعضا من الصور الخاصة بالدراسة وقال: أقمنا ما يشبه محطة لمعالجة العصارة وتخليصها من المواد السامة،
باستخدام تقنيات علمية متطورة، واستطعنا من خلال هذه التقنيات خلع 94% من المواد السامة التي تحويها العصارة المذكورة.
وأكد أنه أطلع جهات الاختصاص على نتائج دراسته، وحذرهم وبشدة من خطورة ترك النباشين والمزارعين يحصلون على العصارة دون منع،
لكنه لم يسمع سوى الكلام، والظاهرة مستمرة حتى الآن.
وقال: خلال جلسات وورش عمل عرضنا نتائج الدراسات والتوصيات خاصة أمام رؤساء وممثلين عن البلديات، وسمعها المسؤولون جيداً،
ومنهم من وعد بالعمل على حل المشكلات الناجمة عن النفايات الصلبة، تطبيقها، ومنهم من قال أن صعوبة الظروف والحصر يحول دون ذلك.
يشترط القانون أن يكون موقع المكب بعيدًا عن التجمعات السكنية والتجارية ووفق ما تحدده السلطة، وأن يكون الموقع محاطاً بسياج،
ويكون مبطناً بمادة عازلة لحماية المياه الجوفية، ويوجد فيه نظام لجمع ومعالجة العصارة الناشئة من المكب،
ويقام عكس اتجاه الريح السائدة في المنطقة، إلا أن هذه الشروط غير متوافرة في معظم المكبات.
في حين اعتبر المهندس والمختص في مجال الزراعة نزار الوحيدي العصارة وبعد تحليلها من
منظور زراعي تعتبر مادة خصبة جداً غنية بالمواد اللازمة للنباتات من نيتروجين وفوسفور وبوتاسيوم وكالسيوم وماغنيسيوم،
ولكن البعض غفلوا عن الجانب الآخر لتلك العصارة، فهي مادة خطيرة جداً على الصحة من حيث احتوائها على مواد حية ممرضة وفطريات
وطفيليات واحتوائها على مواد قد تكون سامة مثل مبيدات وأدوية ومواد كيميائية، وقد تحتوي على مواد مشعة مثل البطاريات
والراديو والجوالات وبطاريات الأجهزة الكهربائية، وهذه المواد مسرطنة.
وتنتقل المواد المستخدمة في التسميد عبر أنسجة النباتات وتصل إلى أوراقه، وسلسلتها الغذائية وتسبب السرطان
والفشل الكلوي والزهايمر، وتؤدي إلى أنماط متعددة للحساسية بالإضافة للأمراض المتعددة والفطرية.
ووفق دراسة حول “النفايات الصلبة ومخاطرها على البيئة” للباحث رامي أبو العجين، فإن مكبات
النفايات الصلبة التي تنتشر في قطاع غزة
تترك بشكل كبير وخطير مخاطر جمة على المياه الجوفية، التي يعتمد عليها الأهالي في شربهم وطعامهم اليومي،
وتؤدي إلى تلوث الهواء والتربة، خاصة الزراعية.
وتتبع مكبات النفايات المنتشرة شرق القطاع للبلديات، كل مكب حسب نفوذ البلدية التي يتبع لها،
اذ تباينت ردود البلديات حول المشكلة،
لكن معظمها أجمعت على خطورة وجود النباشين وسرقة العصارات السامة، مبررة عدم منع بوجود
مجموعات مختصة بسرقة العصارة وبيعها،
وهم في غالبية الأمر يعجزون عن السيطرة على المكبات، بسبب قربها من الحدود مع الأراضي المحتلة
بسبب الخوف من إطلاق الاحتلال النار عليهم.
في حين يؤكد المهندس علاء الفرا من وزارة الزراعة، أن الأخيرة ليست جهة تنفيذية لتمنع سرقة العصارات السامة،
لكنها تقوم بدور تحذيري للمزارعين، وتنبههم لخطورة تجريع المحاصيل بتلك العصارة، وتطالبهم باستخدام الأسمدة المصرحة والآمنة.
حلول تتبلور
بدأت بعض البلديات بالتحرك لعلاج مشكلة النباشين بناء على مطالبات وشروط من الجهات المانحة،
فيما لازالت أخرى لم تفعل شيء،
اذ يقول المهندس مهند معمر رئيس قسم النظافة في بلدية رفح، إن التعامل مع النباشين في المكبات الرئيسية
والفرعية يتفاوت من بلدية لأخرى في القطاع، فمنهم من يحظر هذا العامل ويمنعه، وهناك بلديات تغض البصر، وآخرون
يعجزون عن تتبع النباشين بسبب قرب المكبات من مناطق حدودية خطرة.
وأكد معمر أن محافظتي رفح وخان يونس جنوب قطاع غزة، عالجت هذه المشكلة بعد إنشاء مكب نفايات
حديث في منقطة الفخاري عبر أمرين، الأول إغلاق المكب ومنع أي شخص من الوصول إليه، والثاني إيجاد
بدائل للنباشين عبر مشاريع صغيرة تدر عليهم دخلاً، وتوفر لهم الأمن الصحي.
وتوقع معمر أن تنفذ باقي البلديات هذه الخطوة، في طريق علاج هذه الظاهرة، وهذا شرط فرضته الجهات
المانحة لتنفيذ المشروعات، رغم أن نباشين جدد قد يظهرون في مكبات أخرى.
https://pngoportal.org/p/17469
مكبات النفايات شرق قطاع غزة.. نباشون ينقلون المرض ويسرقون العصارات السامة